Arabic translation of my “Post-postmodern Art” essay (updated)

[My “Post-postmodern Art” essay was translated into Arabic (text below and PDF version here) by Moin Jaffar Mohammed of Babylon, Iraq, edited by Maha El-Shenhaby, and published in the journal Al-Adeeb Al-Thakafiya. For more of my art-related publications, see my Art page.]

فن ما بعد – ما بعد الحدثة

كتابة : ستيفن هِكس

ترجمة : معين جعفر محمد

يبدأ الفن في ذهن الانسان المبدع، فالفنان يتخذ من خبراته الهامة وأفكاره، مادة أولية ويخلق لها تجسيدا حسي الادراك.  وكل فنان يكون آراءه الخاصة المستقلة لتحديد أي من خبراته وأفكاره تعد الأكثر أهمية.  واستثمارا لأفضل حالات مقدرته وباستخدامه أسلوبه الفريد يسخر كل فنان تقنيات وسيلته الحسية المنتقاة، لتكون النتيجة الناجمة مادة تحمل، وهى فى أفضل حالاتها، قوة مهيبة للارتقاء بحواس وعقول وعواطف أولئك الذين يجربونها.

إن أولئك الذين لبوا نداء الفن على مر القرون، قد طوروه وحولوه إلى وسيلة ناقلة للخيال الابداعى، تستدعى أعلى درجات بصائر الرؤى البشرية الخلاقة، كما أنها تتطلب مهارة شديدة الاتقان. أما الأسماء التي تثير فينا إحساسا بالعظمة ، مثل: ليوناردو، مايكل أنجلو، رافائيل، رامبرانت، فيرمير.. فترمز إلى أولئك الاشخاص الذين وسعوا نطاق المحاور الفكرية والموضوعات، و طوروا ذخيرة من التقنيات أصبحت متاحة للجيل التالي من الفنانين.  لقد خلقت إنجازاتهم حالة للفنان، لا بصفته مجرد خلاق ذو خيال ابداعى أو محترف فقط، بل بصفته فردا من طراز خاص تندمج فيه الرؤيا و الحرفة كلتاهما و تتعمقان.

ولكن مع حلول منتصف القرن التاسع عشر تقريبا، بدأ عالم الفن يفقد الثقة بنفسه.  ولقد كانت أعراض تدهور الفن جزءا من انزلاق عالم الفكر الأوسع نطاقا في إحساس مفاده أن التقدم والجمال والتفاؤل والإبداع الحقيقى هى أمور لم تعد ممكنة.

أما بالنسبة لأسباب الاحساس بالتدهور، فقد كانت كثيرة، ومنها أن تصاعد مد مذهب الطبيعية Naturalism في القرن التاسع عشر، أدى بأولئك الذين لم يتخلصوا من تركتهم الدينية إلى الشعور بالوحدة و الافتقار الى التوجيه في كون فسيح خالى.  كذلك كان ظهور نظريات فلسفية مثل الشكوكية واللاعقلانية قد أفضى بكثيرين إلى فقدان الثقة بقدراتهم الادراكية ممثلة بملكة التصور والعقل.  على الجانب الآخر فان تطور النظريات العلمية كنظرية التطور ونظرية الإنتروبيا Entropy قد اجتلبت معها تفسيرات تشاؤمية للطبيعة البشرية ولمصير العالم.  يضاف إلى هذا أن انتشار الليبرالية و الأسواق الحرة حدا بخصومهما في اليسار السياسي – الذين كان كتير منهم أعضاء في حركة الفن الطليعي – إلى رؤية التطورات السياسية كسلسلة من خيبات أمل عميقة.  هذا بينما أدت الثورات التكنولوجية، التي حفزها توحد العلم والرأسمالية، بكثيرين إلى استشراف مستقبل تصبح البشرية فيه منزوعة الانسانية و مدمرة بالماكينات نفسها التي كان من المفترض أن تحسن من ظروف معيشتهم ومقدراتهم.

 وقبيل مطلع القرن العشرين، استفحل الإحساس القلق الذي شهده عالم الفكر في القرن التاسع عشر، وتحول الى جزعا شديد التأزم.  ولقد انعكس ذلك على الفنانون الذين استجابوا بأعمالهم الفنية التي بحثت وعبرت عن عالم بدا فيه أن العقل والنظام واليقين والكرامة والتفاؤل قد اختفوا تماما.

أما الأعمال التي تعد من الرموز الفنية الكبرى للقرن العشرين فكانت تعبر عن أذهان الأسماء الكبيرة التي قد أبدعتها. و هكذا فإن فن القرن العشرين هو عالم بيكاسو Picasso المتصدع والمسكون بكائنات مفككة ذات عيون خالية من أيما تعبير؛ وهو نساء ورجال إدوارد هابر  Edward Hopper الغير متناغمين عاطفيا في خلفيات عليلة بالية؛ وهو الرعب المفترس لسلسلة انتجها ويلم دي كوننغ Willem de Kooning تحت عنوان « إمرأة » ؛ وهو عالم سلفادور دالي Salvador Dali السريالي الذي ينطمس فيه الحد الفاصل ما بين حالات أحلام ذاتية وواقع موضوعي، وهو الابتذالية المصطنعة لأندي وورهل Andy Warhol  وتناسخاتها الميكانيكية؛ وهو واقع التقطه إدوارد مانش Edvard Munch  تنبؤيا في «الصرخة» التي تحكي رعب أن تكون صفرا في عالم هو ببشاعة دوامة من اشكال لا شكل لها تقريبا.

ان عالم القرن العشرين يعد كذلك قصة تحكي محوه لذاته. فبينما كان كل من بيكاسو ومانش ينظران إلى الواقع و يسجلان ملاحظاتهما الكئيبة، تقهقر آخرون من العالم و شرعوا بتعرية الفن من كل ما استطاعوا تعريته منه.  وبما ان وسائل الاعلام الأخرى، كالتصوير الفوتوغرافي والأدب، كانت تستنسخ الواقع وتحكي قصصا عنه، عمد كثيرون الى محو المحتوى من أعمالهم بقدر استطاعتهم، حتى بلغ الفن حالة أصبح معها دراسة مستقلة بذاتها تحتوي على البعد واللون والتكوين.  ولكن لعبة الاختزال والتجريد سرعان ما أدت إلى تحديات موجهة حتى لتلك السمات نفسها.  وفي دراسات اللون العقيمة التي أنتجها بايت موندريان Piet Mondrian و بارنيت نيومان Barnett Newman اختفى أي إحساس بوجود بعد ثالث.  وفي لوحة كاسيمير ماليفيتش Kasimir Malevich الأقرب إلى أحادية اللون «بياض على بياض»، فقد تم التخلي تماما عن التمايز اللوني.  وفي رسم جاكسون بولوك Jackson Pollock  الشارد، والذي استخدم فيه التقطير ورش الرذاذ، تم استبعاد أي دور للتركيب الفني.

وهكذا انتهى المطاف بعالم الفن الى طريق مسدود، فحينما كان يتطلع الى العالم بعيني بيكاسو ومانش, كان لا يرى أي شئ ذو قيمة، وعندما كان ينظر إلى ما أنتجه الاختزاليون كان يرى أنه لم يكتب البقاء لأي شيء فني على نحو فريد من نوعه.  وبشكل جماعى كان أبرز قياديي عالم الفن قد قرروا أنه ليس للفن محتوى، وأنه ليست له اية وسائل أو تقنيات خاصة به، وانه ليس للفنان أي دور حاسم في العملية الفنية.  وهكذا لم يعد الفن شيئا يعتد به، أو بمعنى آخر أصبح تعبيرا عن العدم.

إن خلاصة الاستنتاج النهائي أعلنها مارسيل ديوشامب Marcel Duchamp على نحو شائن، و ذلك حينما طلب من ديوشامب تقديم شيء ليعرض في معرض كان يزمع إقامته في العام 1917، فاأرسل لهم «مبولة»!

بالطبع كان ديوشامب يعرف جيدا تاريخ الفن، كان يعرف ما تم إنجازه، وكيف كان الفن على مر القرون وسيلة ذات سطوة تستدعي أعلى درجات تطور الرؤيا البشرية الخلاقة، وتتطلب مهارة تقنية غاية فى البراعة.  كما كان يعرف ما للفن من تأثير هائل يرقى بحواس وعقول ومشاعر أولئك الذين يختبرونه.  لقد تمعن ديوشامب فى تاريخ الفن وقرر صياغة بيان فحواه أن الفنان ليس مبدعا كبيرا– ولذا تبضع ديوشامب من متجر سباكة!   فالعمل الفني لا يعد شيئا فريدا من طراز خاص، بل هو نتاج جماهيري مستنسخ بأعداد ضخمة في مصانع – كما أن تجربة الفن لم تعد مثيرة ومعظمة للإحساس بالنبل بل هي في أحسن أحوالها محيرة، وفي أغلب الأحيان تترك المرء معبأ بالنفور.  ولكن علاوة على ذلك و الأهم منه، أن ديوشامب لم يقم باختيار مادة جاهزة بغرض عرضها كما كان مفترضا، ولكنه فضل اختيار المبولة لتوجيه رسالة واضحة وهى: ان الفن هو شيء تبولون عليه!!

إن الفن بطبيعته يتناول الشيء المميز ويعبر عما يعتقده الفنان ويشعر بأهميته، الى الحد الذي يجعل منه تعبيرا عن كينونة الفنان.  والفن هو عمل إتصالى بمعنى انه بيان موجه لجمهور عما يفكر فيه الفنان و يشعر بقدره.  وإذ يقرر فنان تكريس أسبوع، أو شهر، أو سنة أو أكثر من حياته لإبداع (هذا) دونا عن (ذاك)، فإنما هو يقول لنا أن ال (هذا) يستحق أن يكرس له وقته وجهده.  وإذ يقدم الفنان ثمار جهوده إلى أي جمهور، فإنما يقول لهم إن إبداعه يستحق الوقت والجهد اللذين ينفقونهما في تأمله. فنحن نربأ بأنفسنا من أن نبدد وقتنا على شيء غير هام أو أن نطلب من آخرين تبديد وقتهم – ما لم نكن راغبين في التعبير عن الاعتقاد الهام بعدم وجود شيء هام على الإطلاق.

لقد أصبح ديوشامب والآخرون رموزا أيقونية في تاريخ الفن الحديث، فمن خلالهم أصبحت قصة عالم الفن قصة تحكي حالة تفكك ذاتي الوعي.

على أية حال، ما إن يتم تفكيك كل شيء، حتى يصبح لكل فنان خياره.  فهو قادر على اختيار المشاركة فى لعبة السخرية واليأس الجارية حاليا، آملا في أن يقدم – في أحسن الأحوال – أدنى درجة من التغيير هنا وهناك، أو هو يستطيع أن يلقي نظرة إلى العالم من جديد ليعيد اكتشاف الطاقات الكامنة فيه والتي كان الفنانون الرواد الكبار قد وجهوا عنايتنا اليها.

إن كثيرا من الاعمال الفنية في الوقت الحاضر تنأى بمسافة كبيرة عن البناء على أساس الأشكال الانسانية المهيبة التى أبدعها مايكل أنجلو Michelangelo، أو مهارة رمبرانت  Rembrandt في رسم الشخصيات، أو إستعمال فيرمير Vermeer  البديع للضوء.  ومع كونه الأقرب زمنيا إليهم، فإن كثيرا من عالم الفن في أيامنا يبعد بمسافة كبيرة عن جلال أعمال ألبرت بيرستات Albert Bierstadt وفريدريك تشارتش Frederick Church وأناقة رسومات جون سنجر سارجنت John Singer Sargent وغنى لوحات فردريك رمنغتن Frederic Remington.

إن الفنان ليس بعالم آركيولوجيا (عالم آثار)، و ليس القصد هو بعث الماضي ومحاكاته بل القصد أن العالم الذي شهدوه ومجمل أشياء أخرى كثيرة  فيه، لا يزال موجودا وفى المتناول.

الفنان هو مثله مثل أي انسان مفكر وحساس وشغوف، لديه القدرة على اتخاذ القرار إما بقبول افتراضات الماضى القريب والعمل داخل أطرها، أو أن يشطب عليها ويمضى منفردا مشككا فى كل تلك الافتراضات، وباحثا بشكل نشط ومجتهد عن بدائل لهم.  إن كل فنان يعبر بأعماله الفنية عن أعمق اختياراته التى اتخذها.  وتلك الطاقة التعبيرية هى ما تدفع ببعض منا أن يصبحوا فنانين على أفضل وجه، وهى أيضا الشئ الذى يدفع بهؤلاء منا الغير مبدعين فنيا، إلى الانجذاب الى إبداعاتهم الفنية تلك.  وبالتالى فإن الخيار الاستراتيجى لما يجب التعبير عنه، وكيف، هو بالفعل أهم شئ، بل هو كل شئ فى النهاية.

ملاحظات المترجم

1 – ولد البروفيسور ستيفن هكس في العام 1960 في تورنتو،, أونتاريو، بكندا.  في العام 1979 التحق  بجامعة غالف حيث نال درجة البكالوريوس في الفلسفة عام 1982 , و في العام 1985 نال درجة الماجستير في التخصص نفسه ومن الجامعة نفسها.  ثم حاز على درجة الدكتوراه من جامعة إنديانا ، بلومنغتن، في العام 1991 و كانت أطروحته تحت عنوان (( دفاع عن التأسيسية)).  من بين أبرز مؤلفاته التي أحدثت أصداء في الأوساط الثقافية و الأدبية كتابه (( شرح ما بعد الحداثة: الشكوكية والاشتراكية من روسو الى فوكو)) و قد ترجم إلى عدة لغات منها البرتغالية، الصربية، الفارسية، الاسبانية، والسويدية.  وقد اعتمده مفكرون وأكاديميون يمثلون جناح أقصى اليسار السياسي للتعبير عن رد الفعل تجاه فشل الاشتراكية القومية والشيوعية !! (ستنشر ” الأديب الثقافية ” ترجمة لمناقشة نقدية لهذا الكتاب كتبها ونشرها الناقد والباحث الأكاديمي ستيفن. م. ساندرز). أما كتابه الهام و الخطير الثاني فهو ((نيتشه والنازية)) الصادر في العام 2006 و أعيد طبعه في العام 2010.  ترجم هذا الكتاب الى اللغة البولونية والفارسية في العام 2014.  يبين هذا الكتاب ماهية الجذور الأيديولوجية والفلسفية للاشتراكية القومية، كما يبين كيف استخدمت أفكار نيتشه (وكيف أسيء استخدامها في بعض الحالات!) من قبل أدولف هتلر و النازية لتبرير معتقداتهم و ممارساتهم.

2 –Entropy  الإنتروبيا : مصطلح يعني في أصله اللغوي «الكون» ؛ أما اصطلاحا فيجري تعريبه بال ( إعتلاج ). إن أصل المصطلح في اليونانية يفيد معنى التحول، ولكنه استعمل في الفيزياء و الكيمياء ضمن قوانين التحريك الحراري في الغازات أو السوائل حيث ينص القانون الثاني للديناميكا الحرارية على مبدأ أساسي يقول بأن: ” أي تغير يحدث تلقائيا في نظام فيزيائي لا بد من أن تصحبه زيادة في مقدار انتروبيته ” وهكذا تطورت استعمالات المصطلح “أنتروبيا” ليفيد معنى التحول الى حالات أكثر فوضوية، مثل انتشار نقطة الحبر في الماء.  من هنا يأتى استخدام هذا المصطلح في أدب ما بعد الحداثة دلالة على هذه السمة (الانتشارية) و ردم الحدود الفاصلة بين الأجناس.  (المترجم – عن موسوعة الويكيبيديا الألكترونية المجانية ، بشيء من التصرف و الإيجاز).

3 – السينسزمية : cynicism أو السخرية – في الفلسفة هى اشتقاق من “cynic”: «المؤمن بأن السلوك البشري تهيمن عليه المصالح الذاتية وحدها، والمعبرعن موقفه هذا عادة بالسخرية والتهكم –  المترجم عن قاموس المورد» أما في الأدب و الفن فيشير الى أسلوب ساخر غالبا ما يتخذ شكل تورية.

* * *

post-postmodern-art-362x100

[“Post-postmodern Art” is also available in its original English form, in a reprint version with images of the relevant works (pdf), in a slide-show version with images (PowerPoint), and in Serbo-Croatian translation (pdf).]

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *